فصل: تفسير الآيات (17- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (17- 30):

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} هو تهديد للمشركين بهذا اليوم الذي يكذبون به، ويختلفون فيه.. إنه آت لا ريب فيه، وهو يوم الفصل، فيما هم فيه مختلفون، وفيما يقضى به اللّه سبحانه وتعالى فيهم من عذاب.
والميقات: الموعد الذي أقّت لهذا اليوم.
قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً} هو بدل من يوم الفصل، فيوم الفصل، هو يوم النفخ في الصور، فإذا نفح في الصور، بعث الموتى من قبورهم، وجاءوا إلى المحشر أفواجا، أي زمرا، إثر زمر.
قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} الواو في قوله تعالى: {وفتحت} واو الحال، والجملة بعدها حال من فاعل {فتأتون أفواجا}.
أي تأتون جماعات وأمما، وقد فتحت السماء فكانت أبوابا، وأزيح عن أعينكم هذا الغطاء الذي ترونها فيه- وأنتم في الدنيا- سقفا سميكا مطبقا.. وكذلك الجبال تبدو وكأنها سراب يتراقص على وجه الأرض.
وقد أشرنا من قبل إلى هذا التبدل الذي يقع في عوالم الوجود يوم القيامة، وقلنا إنه تبدل يقع في حواس الإنسان ومدركاته، يومئذ، لا في هذه العوالم ذاتها.
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه اللّه في هذا المعنى: يتغير في ذلك اليوم- يوم القيامة- نظام الكون، فلا تبقى أرض على أنها تقلّ، ولاسماء على أنها تظلّى، بل تكون السماء بالنسبة إلى الأرواح مفتحة الأبواب، بل تكون أبوابا، فلا يبقى علو ولا سفل، ولا يكون مانع يمنع الأرواح من السير حيث تشاء.
ثم يقول: والآخرة عالم آخر غير عالم الدنيا التي نحن فيها، فنؤمن بما ورد به الخبر في وصفه، ولا نبحث عن حقائقه مادام الوارد غير محال.
ولا شك أن امتناع السماء علينا إنما هو لطبيعة أجسامنا في هذه الحياة الدنيا.
أما النشأة الأخرى، فقد تكون السماء بالنسبة لنا أبوابا ندخل من أيها شئنا بإذن اللّه.
وقوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً} هو تهديد للمشركين، المكذبين بيوم القيامة، وبما فيه من حساب وجزاء.
فهذه جهنم على موعد معهم، قد أعدت لهم، ورصدت للقائهم.. إنها مآب ومرجع للطاغين المكذبين، الذين لا يؤمنون باللّه، ولا باليوم الآخر.
قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} الأحقاب، جمع حقب، والحقب: جمع حقبة.. والحقبة من الزمن، القطعة الطويلة الممتدة منه، وسميت أجزاء الزمن حقبا لأن بعضها يعقب بعضا، ومنه الحقيبة، التي يحملها المرء خلف ظهره، والمراد أن هؤلاء الطاغين الذين أخذوا منازلهم في جهنم، لا يخرجون منها، بل يعيشون فيها أزمانا بعد أزمان، تتبدل فيها أحوالهم: {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} [56: النساء] فهم ليسوا على حال واحدة، بل هم في أحوال شتى من العذاب، يتقلبون فيه، وينتقلون من حال إلى حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [19: الانشقاق] وقوله سبحانه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [17: المدثر] وقوله سبحانه في آية تالية، في هذه السورة: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً} قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزاءً وِفاقاً} الضمير في {فيها} يعود إلى جهنم، وبحوز أن يكون عائدا إلى الأحقاب.
أي أن الطاغين الذي ألقوا في جهنم، لا يذوقون فيها {بردا} أي شيئا من البرد الذي يخفف عنهم سعير جهنم، أولا يجدون شيئا من الراحة والسكون، بل هم في عذاب دائم: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [75: الزخرف] كما أنهم لا يسقون فيها شرابا إلا ما كان من حميم وغساق.
والحميم: الماء الذي يغلى، والغساق: ما يسيل من أجسادهم من صديد يغلى في البطون كغلى الحميم.. فهذا جزاء من جنس عملهم.. إنهم لم يعملوا إلا السوء، فكان جزاؤهم من حصاد هذا السوء الذي زرعوه، {حزاء وفاقا} لما عملوا، ومجانسا له.
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً} هو بيان للسبب الذي من أجله صاروا إلى هذا المصير الكئيب المشئوم.
إنهم كانوا لا يتوقعون حسابا، ولا يؤمنون به، بل كذبوا بآيات اللّه التي تحدثهم عن البعث والجزاء والحساب، فلم يعملوا لهذا اليوم حسابا.
والكذاب: وصف للكذب، ومبالغة في صفته، كما أن كذاب (بالفتح) مبالغة لمن اتصف به.. أي أنهم كذبوا بآيات اللّه تكذيبا منكرا شنيعا، لما صحب تكذيبهم من سفاهة وتطاول على رسول اللّه.
وفى التعبير عن تكذيبهم بالحساب، بقوله تعالى: {لا يرجون}، مع أن الرجاء عادة إنما يكون لتوقع الخير- في هذا إشارة إلى أن يوم القيامة، من شأنه أن يكون أملا مرجوّا عند الناس، ففيه الحياة الحق، والخلود الدائم، والنعيم الكامل، وأن مقام الإنسان في الحياة الدنيا هو مقام قلق، وإزعاج، لا ينبغى للعاقل أن يقيم وجوده عليه، بل ينبغى أن يسعى إلى التحول عنه، والنظر إلى ما وراءه، والرجاء في حياة أكرم، وأفضل، وأبقى.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [110: الكهف] قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً} أي وكل شيء كان أو يكون في هذا الوجود محصّى في كتاب مبين.
وكذلك أعمال هؤلاء المكذبين الضالين محصاة عليهم، مسجلة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً} هو من سياط البلاء والنكال التي تنهال على أصحاب النار، وهم على هذا المورد الوبيل، أن يشربوا من هذا العذاب، وأن يتجرعوا كئوسه الملأى بالحميم والغساق، وأن ما هم فيه في لحظتهم تلك أهون مما يذوقونه في كل لحظة آتية.. إنهم ينتقلون من عذاب إلى ما هو أشد منه، حالا بعد حال، ولحظة بعد لحظة، فليبادروا بشرب ما بأيديهم، قبل أن يشتد لهيبا، ويزداد غليانا.

.تفسير الآيات (31- 40):

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً وَكَأْساً دِهاقاً}.
هو وصف لما يتلقى المتقون من ربهم، من فضل وإحسان، في مواجهة ما لقى للكذبون الضالون من عذاب ونكال.
فالمتقون لهم عند ربهم مفاز أي لهم مدخل إلى جناته ورضوانه، وإلى ما في هذه الجنات من ثمار طيبة.. منها العنب، وقد خصّ العنب بالذكر، لأنه كما يبدو- في الحياة الدنيا- طيب الثمر، دانى القطوف، ممتد الظل.
وفى هذه الجنة {كواعب} جمع كاعب، وهى الفتاة التي نهد ثدياها، وذلك في أول شبابها، وهؤلاء الكواعب أتراب أي متما ثلات في الخلقة، حسنا، وبهاء، وشبابا.. وهذا يعنى أنهن خلقن على صورة من الكمال ليس بعدها غاية، حتى يقع تقاوت فيها.. وفى هذه الجنة كئوس دهاق مترعة ملأى، لا تفرغ أبدا. مما فيها من خمر لذة للشاربين.
قوله تعالى.
{لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً} أي ومن نعيم أهل الجنة ألّا يدخل على نفوسهم شيء مما يكدر صفاءها، من لغو القول، وهجره، وفحشه.. {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [10: يونس] قوله تعالى: {جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً}.
أي هذا النعيم الذي يساق إلى المتقين في جنات النعيم، هو جزاء لهم من ربهم، على ما عملوا من صالح، وما أحسنوا من عمل.
وقوله تعالى: {عَطاءً حِساباً} إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزيهم به ربهم، ليس على قدر أعمالهم، فإن أعمالهم- مهما عظمت- لا تزن مثقال ذرة لمن هذا النعيم، وإنما ذلك عطاء من ربهم، وفضل من فضله، وإحسان من إحسانه.. أما أعمالهم الصالحة، فليست إلا وسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة اللّه سبحانه وتعالى، فإذا رضى اللّه عنهم أرضاهم، وأجزل العطاء لهم.
وفى العدول عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي في قوله تعالى: {مِنْ رَبِّكَ} بدلا {من ربهم} في هذا تكريم للنبى الكريم، وأنه من فضل ربّه عليه كان هذا العطاء الذي وسع المؤمنين جميعا.
وفى قوله تعالى: {حسابا} إشارة أخرى إلى أن هذا العطاء ذو صفتين:
فأولا، هو عطاء بحساب، حسب منازل المتقين عند اللّه، وحسب درجاتهم من التقوى، وثانيا، هو عطاء يكفى كل من نال منه، فلا تبقى له حاجة يشتهيها بعد هذا العطاء.
هذا، وقد أشرنا- في غير موضع- إلى أن نعيم الجنة، وإن استجاب لكل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فإنه يختلف بحسب مقام المتنعمين به، حيث تقّبلهم لهذا النعيم، واتساع قواهم له.. وهذا التقبل وهذا الاتساع يتبع مقام المتنعم ومنزلته عند اللّه.. وقد ضربنا لهذا مثلا بمائدة ممدودة عليها كل ما تشتهى الأنفس من طيبات، وحولها أعداد من المدعوين إليها.. فكلّ ينال منها قدر طاقته، وشهوته، وإن كانوا جميعا قد نالوا ما يشتهون منها.. ولكن شتان بين من أخذ لقيمات، وبين من قطف من كل ما عليها من ثمار! قوله تعالى: {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً}.
هو وصف للّه سبحانه وتعالى، المنعم بهذه النعم الجليلة.. إنها من ربّ العالمين، رب السموات والأرض وما بينهما، من رب رحمن رحيم.
وقوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً} إشارة إلى أن هذا النعيم الذي ينعم به المتقون، إنما هو من رحمة الرحمن الذي أنزلهم منها هذا المنزل الكريم.
ولو ساقهم اللّه سبحانه إلى النار لما كان لهم على اللّه حجة، لأن أحدا في موقف الحساب والجزاء لا يستطيع أن يسأل اللّه عن المصير الذي هو صائر إليه.. إنه لا يملك خطابا، ولا مراجعة.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً}.
الظرف {يوم} هو قيد لهذا الوقت الذي لا يملك فيه المتقون خطابا.
فقوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً} مظروف بهذا الظرف، وهو وقت قيام الروح والملائكة صفّا بين يدى اللّه، في موقف الحساب والجزاء.. وقوله تعالى: {لا يَتَكَلَّمُونَ} هو بدل من قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً}.
والروح: هي أرواح البشر، في موقف الحساب.. ويجوز أن يكون الروح، جبريل.
فالروح- أي الخلائق-، والملائكة، لا يتكلمون في هذا الموقف، إلا من أذن اللّه له بالكلام، وقال صوابا فيما أذن اللّه سبحانه وتعالى له به من كلام.. فإذا أنطقه اللّه يومئذ، فإنما ينطق بالحق.
قوله تعالى: {ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً}.
أي ذلك اليوم، هو اليوم الحق، الذي كذّب به المكذبون، واختلف فيه المختلفون.. فمن شاء النجاة والفوز فيه، اتخذ مآبا ومرجعا إلى ربه، وعمل حسابا لهذا المرجع والمآب، وأعد لنفسه العمل الصالح لهذا اليوم.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً}.
أي بهذا الحديث، وبهذه الأدلة التي سيقت لكم فيه، قد جاءكم النذير أيها المكذبون بيوم القيامة، وهو نذير بالعذاب لكم في هذا اليوم، وهو يوم قريب، وإن ظمنتموه بعيدا بعدا، تائها في الزمن.. إنه مطلّ عليكم، ويومها ينظر المرء ما قدمت يداه، ويرى ما عمل من خير أو شر، ويومها يتمنى الكافر أن لو كان ترابا من هول ما يطلع عليه من سيئات أعماله.. وهى أمنية لا سبيل له إليها..!!

.سورة النازعات:

نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة النبأ عدد آياتها: ست وأربعون آية.
عدد كلماتها: مائة وتسع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها ختمت سورة النبأ بهذا النذير الذي يلقى به في وجه المكذبين باليوم الآخر، وبما يلقاهم منه من بلاء، حتى إنه ليتمنى الكافر يومئذ أن يكون مغيّبا في التراب، غائصا في أعماقه، من هول ما يراه.
وقد جاءت سورة النازعات مفتتحة بهذه الأقسام، على أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، ولم يذكر لهذه الأقسام جواب، لأن جوابها قد سبقها، في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً} الآية، أي أن هذا العذاب القريب الذي أنذرنا كم به واقع، وحقّ {النَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً} الآيات.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 14):

{وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}.
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه اللّه، عن هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها من مخلوقاته- يقول:
جاء في القرآن الكريم ضروب من القسم، بالأزمنة والأمكنة والأشياء.
والقسم إنما يكون بشيء يخشى المقسم إذا حنث في حلفه به أن يقع تحت للؤاخذة- نعوذ باللّه أن يتوهم شيء من هذا في جانب اللّه- وما كان اللّه جل شأنه ليحتاج في تأكيد أخباره إلى القسم بما هو من صنع قدرته، فليس لشيء في الوجود قدر إذا نسب إلى قدره تعالى، الذي لا يقدره القادرون، بل لا وجود لكائن إذا قيس إلى وجوده- سبحانه- إلا لأنه انبسط عليه شعاع من أشعة ظهوره جل شأنه ولهذا، قد يسأل السائل عن هذا النوع من الخبر الذي اختص به القرآن وكيف يوجد في كلام اللّه؟ فيجاب، بأنك إذا رجعت إلى جميع ما أقسم اللّه به، وجدته إما شيئا أنكره بعض الناس، أو احتقره لغفلته عن فائدته، أو ذهل عن موضع العبرة فيه، وعمى عن حكمة اللّه في خلقه، أو انعكس عليه الرأى في أمره، فاعتقد فيه غير الحق الذي قرر اللّه شأنه عليه- فيقسم اللّه به، إما لتقرير وجوده في عقل من ينكره، أو تعظيم شأنه في نفس من يحقره، أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره، أو لقلب الاعتقاد في قلب من أضله الوهم، أو خانه الفهم ومن ذلك النجوم.. قوم يحقرونها لأنها من جملة عالم المادة، أو يغفلون عن حكمة اللّه فيها، وما ناط بها من المصالح، وآخرون يعتقدونها آلهة تتصرف في الأكوان السفلية تصرّف الرب في المربوب، فيقسم اللّه بأوصاف تدل على أنها من المخلوقات، التي تصرّفها القدرة الإلهية، وليس فيها شيء من صفات الألوهية.
ثم يقول الإمام:
و هناك أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن من الأديان السابقة على دين الإسلام، ما ظن أهله أن هذا الكون الجسماني، وما فيه من نور وظلمة، وأجرام، وأعراض- إنما هو كون مادى، لم يشأ اللّه كونه إلا ليكون حبسا للأنفس، وفتنة للأرواح، فمن طلب رضا اللّه، فليعرض عنه، وليبعد عن طيباته، وليأخذ بدنه بضرب من الإعنات والتعذيب وأصناف الحرمان، وليغمض عينيه عن النظر إلى شيء مما يشتمل عليه هذا الكون الفاسد في زعمه- اللهم إلا على نية مقته، والهروب منه.
فأقسم اللّه بكثير من هذه الكائنات، ليبين مقدار عنايته بها، وأنه لا يغضبه من عباده أن يتمتعوا بما متعهم به منها، متى أدركوا حكمة اللّه في هذا المتاع، ووقفوا عند حدوده في الانتفاع.
وقد رأينا أن ننقل رأى الإمام في هذه الأقسام التي أقسم اللّه سبحانه بها في القرآن، لأننا لم نجد قولا خيرا من هذا القول، ولا أوضح منه في هذا المقام.
قوله تعالى: {وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً} اختلف المفسرون- كشأنهم دائما فيما يحتمل التأويل والتخريج- فلم يجتمعوا على رأى في مدلول كلمة {النازعات}.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أنها هي النجوم البعيدة، الغائرة، الغارقة في أطباق السماء العليا.
فالنزع: بمعنى الانطلاق، والنزوح البعيد.
والغرق: بمعنى الإغراق في الأمر، ومجاوزة الحدود.
{وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً} هي النجوم، القريبة- نسبيّا،- منّا، فنرى لها حركات ظاهرة، على خلاف النجوم، الغارقة في أجواء السموات العلا، حيث تبدو وكأنها مقيدة في أماكنها، أما النجوم القريبة، فتظهر عليها الحركة، وتبدو كأنها نشطت من عقالها.
{وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً} هي الكواكب، المطلة علينا في سماء الدنيا، كالشمس، والقمر، والمشترى والمريخ، وزحل، وغيرها.
فهذه الكواكب لقربها منا، نراها سابحة في الجو، كما تسبح الطيور.
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [38: يس].
{فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً}.
هى هذه الكواكب السابحة سبحا، وهى- كما يبدو من ظاهر حركاتها- في سباق مع بعضها، حيث ترى الشمس مرة أمام القمر، ويرى القمر مرة أمامها.
{فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}.
هى أيضا نفس هذه الكواكب، السابحات سبحا، والسابقات سبقا.
إنها في تعاملنا معها، تضبط الزمن، ساعات، وأياما، وشهورا.. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [12: الإسراء].
وتدبير هذه الكواكب لأمورنا، هو فيما يظهر من آثارها في حياتنا، من حرّ وبرد، ومن هبوب رياح، ونزول أمطار، وإنضاج ثمار، ومدّ وجزر في البحار، وغير ذلك مما نشهده من حركة الشمس والقمر، وما يتبع هذه الحركة من آثار في عالمنا الأرضى، برّا، وبحرا، وجوّا.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}.
ليس هذا جواب القسم، فجواب القسم- كما قلنا- هو مادل عليه ختام سورة النبأ، أما هذا فهو بيان لما يجرى في يوم القيامة، الذي جاء القسم لتوكيده، الأمر الذي يقتضى التسليم به، فلم يبق إلا بيان ما يحدث فيه.
والراجفة: الأرض، والرادفة السماء.
فالأرض ترجف يوم القيامة، ثم تتبعها السماء، فيما يقع فيها من أحداث هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} [48: إبراهيم].
وقيل: الراجفة: النفخة الأولى، وهى صعقة الموت: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} [68: الزمر].
والرادفة: النفخة الثانية، وهى نفخة البعث: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} [68: الزمر].. وجملة {تتبعها الرادفة} حال من {الراجفة}.
وقوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ}.
الواجفة: الخائفة، المذعورة: المضطربة.. والوجيف: ضرب من السير السريع المضطرب.
وهو إخبار عن حال المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، وذلك حين تطلع عليهم أمارات الساعة، وإرهاصاتها.
وفى الإخبار عن القلوب، دون أصحابها، إشارة إلى أن القلوب في هذا اليوم، هي التي تتلقى هذه الأحداث، وتتفاعل بها، وأن الإنسان في هذا اليوم قد استحال إلى قلب واجف مضطرب، كل جارحة فيه، وكل عضو من أعضائه، قد صار قلبا، يدرك، ويشعر، وينفعل.. وذلك من شدة وقع الأحداث، التي يتنبه لها كيان الإنسان كله.. وفى تنكير القلوب، إشارة إلى أنها قلوب غير تلك القلوب التي عهدها الناس، إنها هذا الإنسان المجتمع فيها بكل أعضائه وجوارحه.
قوله تعالى: {أَبْصارُها خاشِعَةٌ}.
أي أبصار هذه القلوب أو أبصار أصحابها، إذ لا فرق بين الإنسان وقلبه يومئذ.. والخاشعة الذليلة.. وإنما أوقع الذلّ على الأبصار، لأنها هي المرآة التي تتجلى على صفحتها أحوال الإنسان، وما يقع في القلب من مسرات ومساءات.
قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً}؟.
الحافرة: الحياة الأولى التي كان عليها الإنسان.. يقال رجع إلى حافرته، أي إلى الطريق الذي جاء منه.
والفعل {يقولون} هو الناصب للظرف: {يوم ترجف الراجفة} أي يوم ترجف الراجفة، متبوعة بالرادفة، متبوعة بقلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة- في هذا اليوم يقول المشركون: {أإنا لمردودون في الحافرة} أي أنردّ إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد أن نموت، ونتحول إلى عظام بالية؟ إن هذه الأحداث لتشير إلى أن هناك بعثا وحياة بعد الموت!! لقد قال الذين يحدثوننا عن يوم القيامة إن هناك إرهاصات تسبقه، وهذه هي الإرهاصات.. فهل يقع البعث حقا؟ إن ذلك مما تشهد له هذه الأحداث!.
وهكذا تتردد في صدورهم الخواطر المزعجة، والوساوس المفزعة.
قوله تعالى: {قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ}.
أي عندئذ، وبعد أن يعاين المشركون أمارات الساعة، وهم في هذه الدنيا، وبعد أن يتبين لهم أن أمر البعث جدّ لا هزل، وأنه لا شكّ واقع- عندئذ {قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ} أي رجعة قد خسرنا فيها أنفسنا، إذ لم نكن نتوقعها، ولم نعمل لها حسابا.
قوله تعالى: {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}.
{هى} ضمير الشأن، أي فإنما الحال والشأن زجرة واحدة، أي صيحة واحدة، أو نفخة واحدة.. {فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي فإذا هم على ظهر الأرض.
والساهرة: الأرض، وسميت ساهرة، لأنه لا نوم للناس يومئذ فيها، بل هم في سهر دائم، بعد مبعثهم من نومهم في القبور.